الأحد، ١٩ يوليو ٢٠٠٩

الخيمة والسوق

دعني أبدأ بالإقتباس أولا

وبصفته وزيرا لخارجية الولايات المتحدة ومستشار الأمن القومي لرئيسها ، فإن “كيسنجر” راح يطلب من كل من يعرف من مساعديه (في البيت الأبيض وفي الوزارة) ومن كل زملائه السابقين (في الجامعات الأمريكية وفي مقدمتها “هارفارد” وهي جامعته) أن يمدوه بأوراق تساعده علي تناول الأزمة التي فاجأته في ”توقيتها هي” وليس في “توقيته هو”.

……

……

والذي حدث أن ”كيسنجر” في عملية الفزر الأخير للأوراق أزاح إلي مساعديه ورقة “سيسكر” ورقة “فيشر” ووضع ورقة الباحث (الذي أرجح أن يكون “ريتشارد هاس”) في حقيبة يده وبدأ سفره.

وكانت الورقة مختصرة: صفحة واحدة.

وكانت في نفس الوقت جديدة: عنوانها “الخيمة والسوق”.

كانت الورقة في ملخصها (رغم قصرها) تقول لـ”هنري كيسنجر”:

لا داعي لأن تشغل نفسك – في الوقت الراهن – بنظريات كثيرة في إدارة وحل الصراعات ، وفنون التفاوض ودواعي الأمن.

ما ينفعك الآن هو أن تتذكر “تقليدين” من “ثقافة” الحياة العربية:

تقليد “الخيمة” – وفيها شيخ يتوسط مجلسا يحيط به ، وإن كانت السلطة عنده وحده. وعندما تدخل عليه فسوف تجد من حوله كثيرين يدخلون ويخرجون – ويهمسون في أذنه ، ويهزون رءؤسهم ، وقد تري أحدهم يتوجه أمامك إلي رجل آخر في الخيمة لينقل إليه شيئا وهو يشوح بإحدي يديه. كل تلك مؤثرات شكلية وصوتية. ركز نظرك إلي الشيخ وإمدحه وبالغ في مدحه ، وبمقدار ما تعطيه مما عندك فسوف يعطيك مما عنده .

وتقليد “السوق” – والتفاوض فيه ليس علما وإنما هو “فن المساومة” يمارسه أصحابه بـ”مزاج” و”إستمتاع” ، وهم في العادة يبدءون أي صفقة بسعر مبالغ فيه ، وحين تراجعهم تعلو أصواتهم ليقسموا لك أنهم لم يبالغوا ، علي أنهم من أجل خاطرك سوف يتهاودون ، لكنها كلمتهم الأخيرة سوف يقولونها وأنت حر. وحين تسمعها وتؤكد لهم أنها مازالت أعلي مما أنت مستعد لدفعه سوف يعودون لك مرة أخري حالفين (وبالطلاق ربما) أن ذلك خارج قدرتهم لأن قبولهم به خسارة محققة . لا تصدق كلامهم ، وتمسك بما تظنه معقولا وصمم عليه ، وسوف تجدهم يتنازلون أمامك خطوة بعد خطوة (ولو بدت الخطي متثاقلة) وعليك وحدك أن تقدر بإحساسك – دون أي دليل يساعدك – إذا كانوا قد وصلوا إلي القاع الذي لا يقدرون بعده علي النزول ، أو أنه مازال تحت القاع الظاهر – قاع آخر لم تره من أول نظرة أو من النظرة الثانية.

الإقتباس من كتاب “العربي التائه” لـ”محمد حسنين هيكل” عن ورقة قرأها “هنري كيسنجر” وهو في طريقه إلي الشرق الأوسط بعد حرب أكتوبر عندما تسلم لأول مرة إدارة الدور الأمريكي في الأزمة وقتها أيام عهد الرئيس “ريتشارد نيكسون” . السؤال الذي يدور ببالي بعد قراءة هذه السطور هو “كم نسبة إنطباق هذه الثقافة علي الوضع العربي الآن؟” . ربما لا أملك أجابة قاطعة إلا إني يمكن أن أتيقن أنها لا تقل أبدا عن نسب نجاح الزعماء العرب في إنتخاباتهم .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق