الجمعة، ٣١ يوليو ٢٠٠٩

في ضمير الأمة...التاريخ المفقود

قبل أي حديث عن بناء للأمة تحتاج الأمة إلى تصفية ضميرها من أشياء تتعبه قد تكون استقرت فيه عبر السنين أو زرعت فيه بقصد من أعداء الأمة أو بغير قصد من أبنائها في سبيلهم لبنائها و إصلاحها.

و الحديث عن تصفيه ضمير الأمة هو أول خطوة في سبيل البناء لأنه لا يمكن لأمه أن تجد سبيلها للنهضة و يستعد أبنائها للتضحية و الموت في سبيلها قبل أن تكون و يكونوا في حالة سلام فيه تتوافق و تتصالح الأمه مع أبنائها و يكون أبنائها في حالة رضا و راحة ضمير.

إن الهدف ليس الوصول إلى بلد غني أو بلد متقدم يحقق لمواطنيه رفاهية مادية أو معنوية لفترة من الزمن بل إن الهدف هو بناء أسس و أصول عميقة و تثبيتها و توثيقها لتكون جذورا لشجرة كبيرة يتسظل بها قاصديها لقرون و قرون تؤتي ثمارها أعواما و تجف أعواما و لكن تظل شجرة ثابتة معروفةً جذورها لا شك فيها فلا تكون بناتا مزروعا من فوق الأرض يأخذ ماءا ليتزين و لا يؤتي ثمارا و عند أول هبة ريح تراه حطاما.

تقول لنا كتب التاريخ المدرسي أن جمال عبد الناصر أول مصري يحكم مصر بعد إنتهاء حكم الفراعنة أي بعد آلاف السنين و قرأت في بعض الكتابات الصحفية أن شعب مصر كان يشتري العبيد "المماليك" ليحكموه و سمعت في حديث تليفزيوني أن الخلافة العثمانية كانت إحتلالا تركيا و من هذا الكثير من الكلام الذي يتحدث عن كل فنرة من تاريخ مصر.

كيف لشعب مطلوب منه بناء أمة أن يتردد على مسامعه و يتأصل في ضميره أن فترة عزة أمته كانت في الماضي السحيق المحنط الغير مرتبط بأي شكل من الأشكال عن الواقع و ليس له أي تأثير في أي حاضر أو مستقبل في حين أن تاريخه و مرجعيته الحقيقة غير واضحة فلا وضوح حقيقي لمكان مصر في الفترة بين حكم الفراعنة و ثورة يوليو.

كيف من تصوير البلد مصر أنها كانت محتلة يحكمها غير أهلها عبر آلاف السنين أن تطلب من أهلها فجأه بعد ما تعودوا أن يحكموا بغيرهم أن يتولوا زمام أمرهم و أن يتولوا مسئولية هذة الأرض و هذة الأمة.

إن أول و أكبر نقطة عالقة و معذبة لضمير الأمة هي تاريخها و مرجعيتها لذلك فإن دراسة التاريخ يجب أن تتخذ طريقة أخرى فبعد أن رضينا أن نحدد قطعة الأرض و نسميها مصر كان يجب أن نربط قطعة الأرض و نربط الشعب بماضيه بشكل عادل لا يظلم و لا يشينه لأنه منذ فتح المسلمين لمصر و هم جزء من دولة قوية كانت لها أصولها و ثوابتها القوية.

لقد كانت مصر منذ الفتح الإسلامي جزء من دولة الإسلام حيث كانت الفكرة في قمة توجها لدرجة أن معتنقي الفكرة لأول مرة في التاريخ و لأطول مدة أيضا أعتبروا أن الفكرة أو الدين الحنيف نفسه هو الوطن فأي قطعة أرض يدخل أهلها إلى الدين الإسلامي يصبحوا تلقائيا من أهل الوطن و ما يربط أهل الوطن هو الدين في ظرف تاريخي لم يحدث عبر التاريخ فبينما كانت الشعوب يجمعها أما النسب العائلي في القبيلة أو إرتباط الأرض الواحدة كان المسلمين لقرون و قرون تجمعم فكرة أن الجنسية هي الدين متجاوزه كل حدود الأرض.

و لما كانت الجنسية هي الدين فلم يكن هناك حرج أن يتولى أي شخص من أي مكان حكم أي قطعة أرض كما يرى رأس الحكم لأن الفيصل هنا كان الدين الإسلامي و ليس إنتماءه لهذة الأرض و كان أهل الأرض نفسهم مقتنعين فلم نسمع في تاريخ أهل مصر مثلا أنهم اعترضوا على حكم أي شخص بسبب أنه غير مصري ليس لأنهم كانوا مغيبين و لكن لأن شرعية الحكم هي ارتباط الحاكم بالدين الإسلامي و فكرة الخلافة الواحدة للعالم الإسلامي كله.

على سبيل المثال عندما تولى المملوكي بيبرس أدرك أن إنتصاراته على الصليبين و التتار لا تعطيه شرعية الحكم و هو لم يكن يحكم مصر فقط على كل حال بل كان يحكم مصر و الشام و الحجاز المهم أنه بحث لنفسه عن الشرعية فجاء بأحد أبناء العباسيين و ولاه خليفه على المسلمين و أعلن نفسه نائبا له في حكم ما أراد أن يحكم و تحققت له الشرعية التي طلبها ولو كان بيبرس حاكما طاغيا لما كان يبحث عن شرعية لا يحتاجها فهو ظالم يحكم بالسيف وحده و لو كان يخاف من شعب مصر فكان أولى له في بحثه عن الشرعية أن يحاول أن يثبت أي أصل مصري له و لكنه بحث ووجد الشرعية المسيطرة على فكرة المسلمين و هي الخلافة.

مثال أخر في تاريخ ليس ببعيد بعد خروج الفرنسين من مصر عاد حكم العثمانين إلى مصر و عينوا واليا و هو خورشيد باشا و لم يرضى عنه زعماء مصر المصريين المنتمين للأرض فتحركوا ضده و في تحركهم ضده لم يتحركوا ضد فكرة الخلافة العثمانية نفسها إنما طلبوا تغيير هذا الشخص بالتحديد لما كان يؤذيهم من حكمه و عندما فكروا في شخص بديل لم يكن شاغلهم أن يتولى حكمهم مصري بل كان إختيارهم لمسلم ظنوا أنه الأصلح لولايتهم.

من هذا المنطلق و هذا التاريخ العريض الأصيل تستطيع مصر أن تفتخر بقرون من تاريخها الحقيقي المؤثر فيها فعلا فنحن لا نزال نصلي في مسجد عمرو بن العاص الذي تم بناءه مع الفتح منذ ما يقرب من 1400 سنة و نحن لا نزال ننظر إلى الأزهر على أنه مؤسسة تشترك في صنع القرار المصري و قد تم بناءه في حكم الفاطميين لذلك لا انفصال و لا خزي و لا شئ يعيبنا أن حكمنا على مدار 1400 سنة غير مصريين بل كنا دولة إسلام يحكمنا واحد من أهلنا ينتمي إلينا و ننتمي إليه.

و تاريخنا كله شرف أننا كنا دولة و حضارة إمبراطورية سادت العالم لقرون بعزني الأن أن افتخر بوصول المسلمين لحدود فرنسا و حدود الهند.

يعزني تاريخي و لا يعبيني بأي شكل و لا أي هيئة و لكنني أراه يتركني أو أتركه فأراه لا ينقلني لنفس ما كان عليه معي منذ مئة سنة تقريبا و لا أرى العالم نفسه يتقبله بمعنى أنني أجد نفسي الأن بعد أن كنت أنتمي لكل المسلمين على الأرض من الهند للأندلس هم مني و أن منهم أجد نفسي موجودا في قطعة أرض انتمي إليها و اسمي جنسيتي باسمها و مطلوب مني بعد ما ضحيت و جاهدت لقرون في سبيل وطن أن اتحول في سنين أو في فجوة بيني و بين تاريخي أن ادافع عن وطن ليس آخرا إنما هو و لكن شكله اختلف شكله اختلف بتخلي التاريخ عني و في ظروف عالمية لا تسمح بفكرة الانتماء لفكرة أن تطغى على الانتماء لأرض.

فكان مأزقا و كان التحدي و النقطة الثانية في ضمير الأمه بعد أن استارحت لتاريخها أن تنظر لحاضرها و تبحث عن تاريخا لأن كل جذورها فيه و أنه لابد أن تجد ربطة منطقية بعد كل هذة القرون و بين شكل الواقع الجديد الغير مرتبط بما كان لتجد لنفسها الحاضر و المستقبل.

الأحد، ١٩ يوليو ٢٠٠٩

الخيمة والسوق

دعني أبدأ بالإقتباس أولا

وبصفته وزيرا لخارجية الولايات المتحدة ومستشار الأمن القومي لرئيسها ، فإن “كيسنجر” راح يطلب من كل من يعرف من مساعديه (في البيت الأبيض وفي الوزارة) ومن كل زملائه السابقين (في الجامعات الأمريكية وفي مقدمتها “هارفارد” وهي جامعته) أن يمدوه بأوراق تساعده علي تناول الأزمة التي فاجأته في ”توقيتها هي” وليس في “توقيته هو”.

……

……

والذي حدث أن ”كيسنجر” في عملية الفزر الأخير للأوراق أزاح إلي مساعديه ورقة “سيسكر” ورقة “فيشر” ووضع ورقة الباحث (الذي أرجح أن يكون “ريتشارد هاس”) في حقيبة يده وبدأ سفره.

وكانت الورقة مختصرة: صفحة واحدة.

وكانت في نفس الوقت جديدة: عنوانها “الخيمة والسوق”.

كانت الورقة في ملخصها (رغم قصرها) تقول لـ”هنري كيسنجر”:

لا داعي لأن تشغل نفسك – في الوقت الراهن – بنظريات كثيرة في إدارة وحل الصراعات ، وفنون التفاوض ودواعي الأمن.

ما ينفعك الآن هو أن تتذكر “تقليدين” من “ثقافة” الحياة العربية:

تقليد “الخيمة” – وفيها شيخ يتوسط مجلسا يحيط به ، وإن كانت السلطة عنده وحده. وعندما تدخل عليه فسوف تجد من حوله كثيرين يدخلون ويخرجون – ويهمسون في أذنه ، ويهزون رءؤسهم ، وقد تري أحدهم يتوجه أمامك إلي رجل آخر في الخيمة لينقل إليه شيئا وهو يشوح بإحدي يديه. كل تلك مؤثرات شكلية وصوتية. ركز نظرك إلي الشيخ وإمدحه وبالغ في مدحه ، وبمقدار ما تعطيه مما عندك فسوف يعطيك مما عنده .

وتقليد “السوق” – والتفاوض فيه ليس علما وإنما هو “فن المساومة” يمارسه أصحابه بـ”مزاج” و”إستمتاع” ، وهم في العادة يبدءون أي صفقة بسعر مبالغ فيه ، وحين تراجعهم تعلو أصواتهم ليقسموا لك أنهم لم يبالغوا ، علي أنهم من أجل خاطرك سوف يتهاودون ، لكنها كلمتهم الأخيرة سوف يقولونها وأنت حر. وحين تسمعها وتؤكد لهم أنها مازالت أعلي مما أنت مستعد لدفعه سوف يعودون لك مرة أخري حالفين (وبالطلاق ربما) أن ذلك خارج قدرتهم لأن قبولهم به خسارة محققة . لا تصدق كلامهم ، وتمسك بما تظنه معقولا وصمم عليه ، وسوف تجدهم يتنازلون أمامك خطوة بعد خطوة (ولو بدت الخطي متثاقلة) وعليك وحدك أن تقدر بإحساسك – دون أي دليل يساعدك – إذا كانوا قد وصلوا إلي القاع الذي لا يقدرون بعده علي النزول ، أو أنه مازال تحت القاع الظاهر – قاع آخر لم تره من أول نظرة أو من النظرة الثانية.

الإقتباس من كتاب “العربي التائه” لـ”محمد حسنين هيكل” عن ورقة قرأها “هنري كيسنجر” وهو في طريقه إلي الشرق الأوسط بعد حرب أكتوبر عندما تسلم لأول مرة إدارة الدور الأمريكي في الأزمة وقتها أيام عهد الرئيس “ريتشارد نيكسون” . السؤال الذي يدور ببالي بعد قراءة هذه السطور هو “كم نسبة إنطباق هذه الثقافة علي الوضع العربي الآن؟” . ربما لا أملك أجابة قاطعة إلا إني يمكن أن أتيقن أنها لا تقل أبدا عن نسب نجاح الزعماء العرب في إنتخاباتهم .